سورة الرعد - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ} في الكلام حذف، المعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وغير متجاورات، كما قال: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} والمعنى: وتقيكم البرد، ثم حذف لعلم السامع. والمتجاورات المدن وما كان عامرا، وغير متجاورات الصحارى وما كان غير عامر.
الثانية: قوله تعالى: {مُتَجاوِراتٌ} أي قرى متدانيات، ترابها واحد، وماؤها واحد، وفيها زروع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار والتمر، فيكون البعض حلوا، والبعض حامضا، والغصن الواحد من الشجرة قد يختلف الثمر فيه من الصغر والكبر واللون والمطعم، وإن انبسط الشمس والقمر على الجميع على نسق واحد، وفي هذا أدل دليل على وحدانيته وعظم صمديته، والإرشاد لمن ضل عن معرفته، فإنه نبه سبحانه بقوله: {يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ} على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته، وهذا أدل دليل على بطلان القول بالطبع، إذ لو كان ذلك بالماء والتراب والفاعل له الطبيعة لما وقع الاختلاف.
وقيل: وجه الاحتجاج أنه أثبت التفاوت بين البقاع، فمن تربة عذبة، ومن تربة سبخة مع تجاورهما، وهذا أيضا من دلالات كمال قدرته، جل وعز تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
الثالثة: ذهبت الكفرة- لعنهم الله- إلى أن كل حادث يحدث بنفسه لا من صانع، وادعوا ذلك في الثمار الخارجة من الأشجار، وقد أقروا بحدوثها، وأنكروا محدثها، وأنكروا الأعراض. وقالت فرقة: بحدوث الثمار لأمن صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلا، والدليل على أن الحادث لا بد له من محدث أنه يحدث في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت أخر، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه، وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أن اختصاصه به لأجل مخصص خصصه به، ولولا تخصيصه إياه به لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده، واستيفاء هذا في علم الكلام.
الرابعة: قوله تعالى: {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ} قرأ الحسن {وجنات} بكسر التاء، على التقدير: وجعل فيها جنات، فهو محمول على قوله: {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ}. ويجوز أن تكون مجرورة على الحمل على {كل} التقدير: ومن كل الثمرات، ومن جنات. الباقون: {جَنَّاتٌ} بالرفع على تقدير: وبينهما جنات. {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ} بالرفع. ابن كثير وأبو عمرو وحفص عطفا على الجنات، أي على تقدير: وفي الأرض زرع ونخيل. وخفضها الباقون نسقا على الأعناب، فيكون الزرع والنخيل من الجنات، ويجوز أن يكون معطوفا على {كل} حسب ما تقدم في {وَجَنَّاتٌ}. وقرأ مجاهد والسلمى وغيرهما {صنوان} بضم الصاد، الباقون بالكسر، وهما لغتان، وهما جمع صنو، وهي النخلات والنخلتان، يجمعهن أصل واحد، وتتشعب منه رءوس فتصير نخيلا، نظيرها قنوان، واحدها قنو.
وروى أبو إسحاق عن البراء قال: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق، النحاس: وكذلك هو في اللغة، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر صنوان. والصنو المثل، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «عم الرجل صنو أبيه». ولا فرق فيها بين التثنية والجمع، ولا بالإعراب، فتعرب نون الجمع، وتكسر نون التثنية، قال الشاعر:
العلم والحلم خلتا كرم *** للمرء زين إذا هما اجتمعا
صنوان لا يستتم حسنهما ***
إلا بجمع ذا وذاك معا الخامسة: قوله تعالى: {يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ} كصالح بني آدم وخبيثهم، أبوهم واحد، قاله النحاس والبخاري. وقرأ عاصم وابن عامر: {يُسْقى} بالياء، أي يسقى ذلك كله. وقرأ الباقون بالتاء، لقوله: {جَنَّاتٌ} واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة، قال أبو عمرو: والتأنيث أحسن، لقوله: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} ولم يقل بعضه. وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما {ويفضل} بالياء ردا على قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [الرعد: 2] و{يُفَصِّلُ} [الرعد: 2] و{يُغْشِي} [الرعد: 3] الباقون بالنون على معنى: ونحن نفضل.
وروى جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لعلي رضي الله عنه: «الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة» ثم قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ} حتى بلغ قوله: {يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ} و{الْأُكُلِ} الثمر. قال ابن عباس: يعني الحلو والحامض والفارسي والدقل. وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في قول تعالى: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} قال: «الفارسي والدقل والحلو والحامض» ذكره الثعلبي. قال الحسن: المراد بهذه الآية المثل، ضربه الله تعالى لبني آدم، أصلهم واحد، وهم مختلفون في الخير والشر. والإيمان والكفر، كاختلاف الثمار التي تسقى بماء واحد، ومنه قول الشاعر:
الناس كالنبت والنبت ألوان ***
منها شجر الصندل والكافور والبان ***
ومنها شجر ينضج طول الدهر قطران ***
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لعلامات لمن كان له قلب يفهم عن الله تعالى.


{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5)}
قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم الصادق الأمين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث، والله تعالى لا يتعجب، ولا يجوز عليه التعجب، لأنه تغير النفس بما تخفى أسبابه، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون. وقيل المعنى: أي إن عجبت يا محمد من إنكارهم الإعادة مع إقرارهم بأني خالق السماوات والأرض والثمار المختلفة من الأرض الواحدة فقولهم عجب يعجب منه الخلق، لأن الإعادة في معنى الابتداء.
وقيل: الآية في منكري الصانع، أي إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير فهو محل التعجب، ونظم الآية يدل على الأول والثاني، لقوله: {أَإِذا كُنَّا تُراباً} أي انبعث إذا كنا ترابا؟!. {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وقرى {إنا}. و{الْأَغْلالُ} جمع غل، وهو طوق تشد به اليد إلى العنق، أي يغلون يوم القيامة، بدليل قوله: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} [غافر: 71] إلى قوله: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 72].
وقيل: الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم.


{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)}
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أي لفرط إنكارهم وتكذيبهم يطلبون العذاب، قيل هو قولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} [الأنفال: 32]. قال قتادة: طلبوا العقوبة قبل العافية، وقد حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة.
وقيل: {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أي قبل الإيمان الذي يرجى به الأمان والحسنات. و{الْمَثُلاتُ} العقوبات، الواحدة مثلة. ورى عن الأعمش أنه قرأ {المثلات} بضم الميم وإسكان الثاء، وهذا جمع مثلة، ويجوز {الْمَثُلاتُ} تبدل من الضمة فتحة لثقلها، وقيل: يؤتى بالفتحة عوضا من الهاء. وروي عن الأعمش أنه قرأ {المثلات} بفتح الميم وإسكان الثاء، فهذا جمع مثلة، ثم حذف الضمة لثقلها، ذكره جميعه النحاس رحمه الله. وعلى قراءة الجماعة واحدة مثلة، نحو صدقة وصدقة، وتميم تضم الثاء والميم جميعا، واحدها على لغتهم مثلة، بضم الميم وجزم الثاء، مثل: غرفة وغرفات، والفعل منه مثلت به أمثل مثلا، بفتح الميم وسكون الثاء. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} أي لذو تجاوز عن المشركين إذا أمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا.
وقال ابن عباس: أرجى آية في كتاب الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ}. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ} إذا أصروا على الكفر.
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هنأ أحد عيش ولولا عقابه ووعيده وعذابه لاتكل كل أحد». قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا} أي هلا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}. لما اقترحوا الآيات وطلبوها قال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ} أي معلم. {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} أي نبي يدعوهم إلى الله.
وقيل: الهادي الله، أي عليك الإنذار، والله هادي كل قوم إن أراد هدايتهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8